تيوليب •° نائبه المدير °•
عدد مساهماتى |♥ : 4846 تاريخ ميلادى |♥ : 27/11/1965 تاريخ تسجيلى |♥ : 09/01/2011 موقعى |♥ : www.elfagr.ahlamontada.net/
| موضوع: أحقر وأقل من أن تساوي جناح بعوضة الإثنين مايو 02, 2011 3:55 am | |
|
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه وتولاه، واتبع سنته واهتدى بهداه. وبعد:
أنعم الله تبارك وتعالى على أوليائه فعرفهم غوائل الدنيا وآفاتها، وكشف لعباده وأحبابه حقيقتها وسوآتها، وبين لهم قبائحها وعوراتها، فأدركوا أن كل مغرور بها إلى الذل مصيره، وإلى البوار عظيمه وحقيره، وأن كل مفتون بها إلى الندم مسعاه، وإلى الحسرة والخسران منتهاه. ولماذا لا يدركون ذلك وقد علموا أن صفوها مشوب بالأكدار؟، وتعبها ونكدها ممزوج بالليل وبالنهار؟ وصحتها تسوق إلى الأسقام ، وملايينها تؤول إلى مجرد أرقام. شبابها ينعق بالمشيب، وزهرتها تزهو وما تلبث أن تغيب . فهي معاناة ووراءها أهوال، وحقيقتها تنذر العاقل بسرعة الفناء والزوال.
إنها فعلا هكذا، كما علمها وخبرها أولوا الأحلام والنهى، فهي بلا شك دار نفاد لا محل إخلاد، ومركب عبور لا منزل حبور، ومشرع انفصام لا موطن دوام. جديدها يبلى، وملكها يفنى، وعزيزها يذل، وكثيرها يقل، وحيها يموت، وخيرها يفوت، دار كثير بوائقها، وقد ذمها لنا خالقها.
أحلام نوم أو كظل زائل *** إن اللبيب بمثلها لا يخدع
إنها دار سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء، ثم تخلف عند الوفاء. يتخيلها الناظر إليها ثابتة مستقرة، ولكنها تسير سيرا حثيثا، فتجعل كل جديد رثيثا، فتطوي الأعمار طيا عنيفا، وتنشب أظفارها في أهلها نشبا مخيفا، فتصرع من أحبها، وتهلك من تعلق بها، من لا يستشعر حركتها يطمئن بها، ولكنها تصرعه أوثق ما كان منها.
قد نادت الدنيا على نفسها *** لو كان في ذا الخلق من يســمعُ
كم واثق بالعـمر قد أوثقته *** وجامع لحطامها بددت ما يجمعُ
قال بعض الحكماء: "الأيام سهام والناس أهداف، والوقت يرميك كل يوم بسهم ، ويخرم بضعة منك وأنت لا تشعر. فما بقاء جسمك مع نبل الليالي وسهام الأيام؟ ولو كشف لك الغطاء لكرهت مر الساعات التي تسر بمرورها، ولاستوحشت من وقع تلك السهام في جسدك، ولكن السلو عن غوائل الدنيا أوجد طعم لذاتها ، وحجاب الغرور أسدل على ما يزعج منها"
ومن يحمد الدنيا لعيش يســــــــره *** فسوف لعمري عن قليل يلومها
إذا أدبرت كانت على المرء حسرة *** وإن أقبلت كانت كثيرا همومها
إن أهل الفضل والنهى ، وأهل العلم والولاية والتقى، قد فهموا عن الله تعالى مراده، وأنه جل وعلا قد هون من شأن الدنيا ، ولم يرضها لأوليائه جزاء لهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زهد فيها ، وحذر أصحابه منها ومن فتنتها، فلما علموا ذلك كله وأيقنوه ، أكلوا منها قليلا وقدموا لله كثيرا. وأخذوا منها ما يكفي وتركوا ما يلهي، لبسوا من الثياب ما يستر عورتهم، وأكلوا من الطعام ما يسد جوعتهم. فحسنت نيتهم، وصفت سريرتهم، وتراءت لهم الدنيا على حقيقتها، فرأوها لا محالة فانية ، وأن الآخرة هي الدار الباقية، فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب ، وما تبقى منها معهم عمروا به آخرتهم، ثم ارتحلوا إليها بقلوبهم قبل أن يرحلوا إليها بأبدانهم.
إن للــــــــــه عبادا فطنا *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا إليها فلما علموا *** أنها ليست لحي وطـــــــنا جعلوها لجة واتخـــذوا *** صالح الأعمال فيها سفــنا
إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله تعالى عنهم ، كانوا أمثلة واقعة عملية رائعة للزهد في الدنيا، امتثالا لما رباهم عليه سيدنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم. فهذا الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه عُوَيْمِرُ بنُ زَيْدِ بنِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيُّ، الإِمَامُ، القُدْوَةُ، سيد القراء بدِمَشْقَ وقَاضِيها، بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى دمشق ليكون لهم معلما ، ومفقها ، وإماما في الصلاة. فلما بلغها وجد الناس أولعوا بالترف ، وفتنوا بالنعيم، وغمرتهم زخارف الدنيا، وشغلوا بزهرتها. فهاله ذلك الأمر ودعا الناس إلى المسجد، فاجتمعوا عليه فوقف فيهم خطيبا وقال: "يا أهل دمشق!! أنتم الإخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء. يا أهل دمشق!! ما الذي يمنعكم من مودتي؟ والاستجابة لنصيحتي؟ وأنا لا أبتغي منك شيئا، فنصيحتي لكم ومؤنتي على غيركم. مالي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون؟! وأراكم قد أقبلتم على ما تكفل لكم به الله عز وجل، وتركتم ما أمرتم به؟؟!! مالي أراكم تجمعون ما لا تأكلون ؟؟! وتبنون ما لا تسكنون؟!! وتؤملون مالا تبلغون؟؟!! لقد جمعت الأقوام التي قبلكم وأملت، فما هو إلا قليل حتى أصبح جمعهم بورا ، وأملهم غرورا، وبيوتهم قبورا، هذه عاد ــ يا أهل دمشق!! ــ قد ملأت الأرض مالا وولدا، فمن يشتري تركة عاد اليوم بدرهمين؟"
فجعل الناس يبكون حتى سمع نشيجهم من خارج المسجد.
دارت الأيام ، ومرت السنون ولم يزل أبو الدرداء أميرا على أهل دمشق ، وفي يوم من الأيام قدم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الشام ، ليتفقد أحوال أهلها وأحوال أميرها، فلما وصل ذهب إلى دار الأمير أبي الدرداء رضي الله عنه فذهب إليه وكان الليل قد سجى الكون بعباءته السوداء في ليلة مظلمة لا قمر فيها ولا نجوم، فدلف إلى دار أبي الدرداء ودفع الباب فوجده قطعا قديمة من الخشب البالي !! لا مزلاج له ولا ريتاج يغلق به ، فدفعه فوجده مفتوحا فدخل ، لا حاجب عليه ولا حارس، ولا ريتاج ولا أمان بل كان مفتوحا ليلا ونهارا لاستقبال من يأتي بأي شكوى إلى الأمير، فرفع عمر صوته ينادي على أبي الدرداء، فلما سمعه أبو الدرداء عرف حسه فقام إليه يستقبله ويرحب به. رأى عمر بيتا قديما مظلما لا ضوء فيه ولا سراج، ولا حتى حطبا يوقده أبو الدرداء ليستدفيء به من صقيع الشام القاسي. وجلس الرجلان يتحدثان ويسأله عمر عن أحوال المسلمين في الشام، والظلام يحجب كل منهما عن عيني الآخر، وفي هذه اللحظة جعل عمر يجس وسادة أبي الدرداء فإذا هي برذعة حمار قديمة محشوة بالقش، وجس فراشه فلم يجد فراشا بل وجد فراشه عبارة عن الحصى ، وجس دثاره وغطاءه فإذا هو كساء رقيق لا يفعل شيئا ولا يقي من تغطى به شيئا من برد الشام. فقال له عمر: رحمك الله ! ألم أوسع عليك؟! ألم أبعث إليك؟! فقال له أبو الدرداء: أتذكر يا عمر! حديثا حدثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: وما هو؟ قال: ألم يقل: "ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب" ؟! فماذا فعلنا بعده يا عمر؟؟ فبكى عمر ، وبكى أبو الدرداء ، وما زالا يبكيان ويتجاوبان البكاء والنحيب حتى طلع عليهما الفجر!!!!
وتمضي الأيام والسنون ، ويتوفى أبو الدرداء رضي الله عنه، ــ كما سبيل الناس جميعا ــ فرأى عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه مناما رائعا ، ورؤيا حسنة في حق الصحابي الجليل أبي الدرداء رضي الله عنه ، فقد رأى مرجا أخضر فسيح الأرجاء ، وارف الظلال والأفياء، فيه قبة عظيمة من أدم ، حولها غنم رابضة لم تر العين مثلها قط، فقال : لمن هذا؟ فقيل : إنه لعبد الرحمن بن عوف، فبينما هو يتأمل في حسنه وبهائه، إذ طلع عليه عبد الرحمن بن عوف من داخل القبة وقال: يا ابن مالك! هذا ما أعطانا الله ــ عز وجل ــ بالقرآن ، ولو أشرفت على هذه الثنية لرأيت مالم تر عينك ، وسمعت مالم تسمع أذنك، ووجدت ما لم يخطر على قلبك، أعده الله تعالى لأبي الدرداء، لأنه كان يدفع عنه الدنيا بالراحتين والصدر"
وصدق الله تعالى حيث يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) [القصص/83] . هذه الأمثلة الرائعة من الصحابة رضي الله عنهم هي نتاج تربية الرسول صلى الله عليه وسلم ، الذي زهدهم في الدنيا ، ووجه قلوبهم إلى الآخرة، والتي غرست فيهم أخلاقا وسلوكا لا نظير لها في الدنيا كلها. فهو صلى الله عليه وسلم الذي دخل عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فوجده نائما على حصير ، فلما قام صلى الله عليه وسلم وجد عيدان الحصير قد أثرت أثرا بالغا في جنبه الشريف ، فقالوا يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "مالي وللدنيا؟ ما أنا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها" [الترمذي وصححه]. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو القائل: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء" [الترمذي وصححه] . هكذا هي الدنيا التي هي أحقر من جناح بعوضة ، وقد علم حقيقتها أولياء الله وأحبابه.
اللهم أصلح قلوبنا ، وأعمالنا وأقوالنا ، وارزقنا حبك ، وحب من يحبك، وحب عمل صالح يقربنا إلى حبك ، وحب عبادك الصالحين، وإذا أردت بعبادتك فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين، اللهم ارزقنا حسن النظر فيما يرضيك عنا، وأنعم علينا بنعمة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين
| |
|