تيوليب •° نائبه المدير °•
عدد مساهماتى |♥ : 4846 تاريخ ميلادى |♥ : 27/11/1965 تاريخ تسجيلى |♥ : 09/01/2011 موقعى |♥ : www.elfagr.ahlamontada.net/
| موضوع: ومن دخله كان آمنا بقلم الدكتور: زغـلول النجـار الأحد أبريل 24, 2011 4:39 am | |
|
هذا النص القرآني الكريم جاء في منتصف سورة آل عمران, وهي سورة مدنية, ومن طوال سور القرآن الكريم إذ يبلغ عدد آياتها مائتي آية بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي أسرة السيدة مريم ابنة عمران, أم نبي الله عيسي, وقصة ميلادها, وميلاده( عليهما السلام) ونذرها لله من قبل أمها( عليها رضوان الله). وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي):
إن الله اصطفي آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران علي العالمين* ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم* إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم* فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثي والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثي وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم*. (آل عمران:33 ــ36)
وجاء بالسورة نفسها ذكر نبي الله زكريا( عليه السلام) وكيف وهبه الله تعالي ــ علي الكبر ــ ابنه يحيي.. مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين. وجاء ذكر ميلاد السيد المسيح( عليه السلام) بمعجزة من الله( تعالي) من أم بلا أب, وفي ذلك تقول الآيات: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسي ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين* ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين* قالت رب أني يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق مايشاء إذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون* ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل* ورسولا إلي بني إسرائيل...*) (آل عمران:45 ــ49)
كذلك جاء ذكر كثير من المعجزات التي أجراها ربنا( تبارك وتعالي) علي يد هذا النبي الذي جعله ربنا( تبارك وتعالي) واحدا من أولي العزم من الرسل, شهادة له بالنبوة وبالرسالة. ويذكر عدد من المفسرين أن الآيات من(1 ــ83) في هذه السورة الكريمة نزلت في الرد علي وفد نصاري نجران( الذي قدم المدينة المنورة في السنة التاسعة للهجرة) تصحيحا لمعتقداتهم, وتأكيدا لمعني توحيد الله, توحيدا خالصا لاتشوبه أدني شبهة من شبهات الشرك, ذلك التوحيد الخالص الذي جاءت به كل رسالات السماء, وفصلته الرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم), ولذلك استهلت سورة آل عمران بقول الحق( تبارك وتعالي): ألم* الله لا إله إلا هو الحي القيوم* نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل* من قبل هدي للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام*( آل عمران:1 ــ4)
وقوله( تعالي): شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم* إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلامن بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب*.( آل عمران:19,18) كذلك أوردت سورة آل عمران تحذيرات شديدة من أخطار اليهود وانحرافاتهم, واعتداءاتهم, ودسائسهم, ومؤامراتهم ضد أنبياء الله ورسله, وضد دينه وشرائعه, وضد مختلف عباده وذلك من مثل قوله( تعالي): إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم* أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين*( آل عمران:22,21)
وقوله( تعالي): وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون*( آل عمران:187) ولذلك كثر توجيه الخطاب في سورة آل عمران إلي أهل الكتاب والذي جاء في أثني عشر موضعا في خلال السورة الكريمة, وشغل نصف عدد آياتها تقريبا, وذلك من مثل قوله( تعالي): قل يا أهل الكتاب تعالوا إلي كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون*. (آل عمران:64)
ولذلك حفلت سورة آل عمران بمعني توحيد الله, وبتنزيهه( سبحانه وتعالي) عن كل وصف لايليق بجلاله, وبإثبات ما أثبت الله( جلت قدرته) لذاته العلية من الأسماء الحسني والصفات العلا مما لايليق إلا بجلاله, ومن ذلك أنه هو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم, الذي لايخفي عليه شئ في الأرض ولا في السماء, والذي يصور الخلائق في الأرحام كيف يشاء, والذي هو العزيز الحكيم, البصير بالعباد, والذي منه وحده النصر فيؤيد بنصره من يشاء من عباده, والذي هو مالك الملك, يؤتي الملك من يشاء, وينزعه ممن يشاء, ويعز من يشاء, ويذل من يشاء بيده الخير وهو علي كل شئ قدير, وأن الهدي هداه, يهدي به من يشاء, وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء, وأنه واسع عليم, يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم, وهو( تعالي) رؤوف بالعباد, وفي الوقت نفسه هو عزيز ذو انتقام, وأنه( سبحانه وتعالي) لايخلف الميعاد. وقد شغل الحوار مع أهل الكتاب أكثر من نصف السورة الكريمة التي أكدت حتمية الإيمان بجميع الرسالات السماوية, وفي ذلك تخاطب الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) بقول الحق( تبارك وتعالي): قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل علي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وماأوتي موسي وعيسي والنبيون من ربهم لانفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون*. (آل عمران:84)
وانطلاقا من ذلك أتبعت هذه الآية الكريمة مباشرة بقرار الله( سبحانه وتعالي) ذلك القرار الجازم الحاسم والذي يقول فيه( عز من قائل): ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين*)( آل عمران:85) وخاطبت السورة الكريمة أمة الاسلام بقول الحق( تبارك وتعالي):
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون*( آل عمران:110) وامتدحت سورة آل عمران الذين آمنوا من أهل الكتاب وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي): ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون* يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين* وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين*( آل عمران:113 ــ115)
وجاءت السورة الكريمة في ختامها بذكر أهل الكتاب الذين منهم من سلك طريق الهداية الربانية, فانتهي إلي نفس النهاية الايمانية, فآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر, بغير تفريق ولا تمييز, بما في ذلك الايمان بخاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), وبالقرآن الكريم الذي أنزل إليه, فمن الله( تعالي) عليهم بالقبول, ووعدهم بالأجر العظيم, وامتدحهم بقوله( عز من قائل): وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب*( آل عمران:199). أما النصف الآخر من سورة آل عمران فقد اهتم بالحديث عن معركة أحد, وما أصاب المسلمين فيها من انكسار بسبب مخالفتهم لأوامر رسول الله( صلي الله عليه وسلم) علي أرض المعركة, وذكرت الآيات بانتصارات معركة بدر الكبري للمقارنة بين أسباب النصر وأسباب الهزيمة, فالآيات هنا ليست مجرد وصف لما حدث في الواقعتين, ولكنها توجيهات ربانية دائمة لبناء الجماعة الاسلامية, وتوضيح إلهي لقواعد وسنن النصر والهزيمة إلي يوم الدين.
وفي هذا السياق أشارت السورة الكريمة إلي حكم الردة في الإسلام, ودعت إلي الإنفاق في سبيل الله, وحذرت من تحريف اليهود للتوراة, وأمرت باتباع ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين وتحدثت السورة الكريمة عن الكعبة المشرفة بوصفها أول بيت وضع للناس, وعن الآيات المادية العديدة التي تركها ربنا( تبارك وتعالي) في الحرم المكي لتشهد له بالكرامة والخصوصية والبركات.
كما أشارت إلي فريضة الحج علي كل مسلم, بالغ, عاقل, حر, مستطيع مرة في العمر, وأوصت الآيات في سورة آل عمران بتقوي الله, والاعتصام بحبله, وذكرت بنعم الله علي عباده وكافة خلقه, ودعت إلي نفرة طائفة من المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والحض علي كل خير, ووصفت أولئك بالمفلحين, ونهت عن فرقة الكلمة, ووصفت المصائر المتباينة لكل من المؤمنين والكافرين في يوم القيامة ومصير ما ينفق الكافرون في هذه الحياة الدنيا لاكتساب السمعة والشهرة, وحذرت من بغضهم وحقدهم علي المؤمنين, وأكدت أن القرآن الكريم هو كلام الله الذي أوحي به إلي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) بيانا من الله إلي الناس وهدي ورحمة للمتقين, وأن الله( تعالي) لايريد ظلما للعالمين, وأن له ما في السماوات وما في الأرض, وأن إليه ترجع الأمور. وتنهي سورة آل عمران عن أكل الربا, وتحذر من عذاب النار, وتأمر بطاعة الله ورسوله, وبالمسارعة في طلب المغفرة من الله, وسؤاله الجنة التي أعدت للمتقين الذين أوردت شيئا من صفاتهم, وتوصي بالسير في الأرض للاعتبار بعواقب المكذبين.
ثم عاودت السورة الكريمة ذكر معركة أحد في مواساة رقيقة للمسلمين, مؤكدة لهم أنهم هم دائما الأعلون ماداموا مؤمنين, علي الرغم من تعرضهم أحيانا لبعض النكسات, لأن الأيام دول يداولها الله بين الناس, والنصر والهزيمة من سنن الله في الحياة بحكمة يعلمها هو( سبحانه وتعالي) منها أن يتخذ من المؤمنين شهداء, وأن يميز بين المنافقين والمؤمنين, وأن يطهر المؤمنين من الذنوب بشئ من التمحيص, ويهلك الكافرين والمنافقين بذنوبهم لأن الله( تعالي) لايحب الظالمين من المعتدين, كما لايحب المتخاذلين في الدفاع عن الحق وأهله. وتعليقا علي ما أشيع أثناء معركة أحد أن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) قد قتل, وتصور عدد من المنافقين أن رسالته قد انتهت, وأن بإمكانهم الارتداد عن دينه, تؤكد لهم سورة آل عمران أن من يرتد عن الإسلام فلن يضر الله شيئا, ولكنه مهلك نفسه بتعريضها لسخط الله وعذابه, كما تؤكد السورة الكريمة أن الموت حق علي هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم فقد خلت من قبله الرسل.(صلي الله عليه وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين).
وتؤكد الآيات كذلك أن الله( تعالي) قد جعل لكل نفس أجلا محددا لاتموت إلا عنده, وذلك حسب تقدير الله ومشيئته, وفي ذلك تشجيع للمؤمنين علي الجهاد في سبيل الله دون مهابة الموت, كما تؤكد أن الأعمال بالنيات وأن لكل أمرئ ما نوي, فمن قصد بعمله أجر الدنيا أعطاه الله إياه, وليس له في الآخرة من نصيب وأن من قصد بعمله أجر الآخرة أعطاه الله( تعالي) أجري الدنيا والآخرة, وإن كان ذلك حكما عاما إلا أن فيه تعريضا واضحا بمن رغبوا في غنائم الحرب أثناء معركة أحد فتسببوا في هزيمة جيش المسلمين. وتشير الآيات إلي أن أعدادا كثيرة من العلماء الربانيين, والمجاهدين الصادقين الذين قاتلوا مع أنبياء الله ورسله, في سبيل الله ومن أجل إعلاء دينه, قد قتل منهم من قتل, وأصيب من أصيب فما ذلوا, وما انهاروا أمام أعداء الله وأعدائهم, ولذلك تصفهم الآيات بقول الحق( تبارك وتعالي): ... فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين* وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا علي القوم الكافرين* فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين* (آل عمران:146 ــ148)
وتحذر سورة آل عمران ــ في مواضع عديدة منها ــ من موالاة أي من المشركين أو الكافرين, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي): يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم علي أعقابكم فتنقلبوا خاسرين* بل الله مولاكم وهو خير الناصرين* سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوي الظالمين* (آل عمران:149 ــ151)
وتعاود الآيات( من152 إلي175) مرة أخري للحديث عن معركة أحد واستعراض ملابساتها في كل من ساحة القتال وساحة النفس الانسانية, وذلك كله من أجل تربية المسلمين, وتصحيح مفاهيمهم وتصوراتهم, وتحذيرهم من اندساس المنافقين في صفوفهم, ومن كيد الأعداء المحيط بهم( كما هو الحال اليوم وفي كل يوم إلي قيام الساعة). وتؤكد الآيات أن الشيطان يحاول جعل أوليائه من الكفار والمشركين مصدر إرهاب للمؤمنين, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي): إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (آل عمران:175)
وتطلب الآيات من رسول الله( صلي الله عليه وسلم) ألا يحزن علي الذين يسارعون في الكفر فإنهم لن يضروا الله شيئا, ولكن يريد الله( تعالي) ألا يجعل لهم حظا في الآخرة, وأن يجعل لهم العذاب العظيم, ولذلك يمهلهم, ويمدد آجالهم حتي يزدادوا من المعاصي والآثام فيتضاعف عذابهم المهين في الآخرة إن شاء الله رب العالمين. وتؤكد الآيات في سورة آل عمران أن الله( تعالي) يبتلي عباده ليميز الخبيث من الطيب وهو(تعالي أعلم بهم), وليظهر نتيجة ذلك لمن يشاء كما فعل في معركة أحد فكشف المنافقين من الصادقين, وعرف بهم خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) فقال( عز من قائل):
ماكان الله ليذر المؤمنين علي ما أنتم عليه حتي يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم علي الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم*.( آل عمران:179) وتنصح الآيات ببذل المال في سبيل الله, وتتوعد الذين يبخلون فيقول ربنا( تبارك وتعالي): ولايحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير* (آل عمران:180)
وتعاود السورة المباركة التخفيف عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) من وقع كفر الكافرين, وشرك المشركين, وتكذيبهم لبعثته الشريفة فتقول: فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير* (آل عمران:184)
وتؤكد الآيات أن مصير الخلائق كلها إلي الفناء, وأن كل نفس ميتة لا محالة, وأن الخلائق سوف تلقي جزاء أعمالها وافيا يوم القيامة وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي): كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور* (آل عمران:185)
وتتابع السورة الكريمة بتوجيه الناس كافة إلي تأمل خلق السماوات والأرض, والتعرف علي بديع صنع الله فيهما, لأن في ذلك من دعائم الإيمان ما فيه, وتنتهي بابتهال إلي الله( تعالي) طلبا لمغفرته وطمعا في جنته, فيستجيب هذا إلاله العظيم لابتهال المبتهلين من الذين جاهدوا في سبيل الله حق جهاده من الذكور والإناث, ثم تأتي السورة الكريمة في نهايتها بتوجيه إلي رسول الله( صلي الله عليه وسلم), ومن بعده إلي كل مسلم ومسلمة ألا يغتروا بتقلب الذين كفروا في البلاد في شئ من النعمة والجاه والسلطان, فمتاع الدنيا قليل, وسوف ينتهي بهم إلي جهنم وبئس المصير, بينما عباد الله المتقون قد يعيشون في الدنيا تحت ظل الفقر والحرمان ولكن الله( تعالي) قد أعد لهم في الآخرة.. جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار* (آل عمران:198).
وتختتم سورة آل عمران بوصية من الله( تعالي) للمؤمنين تعتبر عدة لهم في مواجهة أهل الباطل في كل زمان ومكان يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي): يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون* (آل عمران:200).
وفي مقال سابق استعرضنا ركائز العقيدة, والتشريعات التي حفلت بها سورة آل عمران, وكذلك الآيات الكونية التي استشهدت بها, وفي هذا المقال نتوقف عند قوله( تعالي) في وصف أول بيت وضع للناس: فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا..( آل عمران:97) وقبل الدخول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال المفسرين في شرح هذه الآية الكريمة.
من أقوال المفسرين في تفسير قوله تعالي: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين* فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا...*( آل عمران:97,96) * ذكر ابن كثير( رحمه الله) ما يلي: وقوله تعالي( فيه آيات بينات) أي دلالات ظاهرة..., وأن الله عظمه وشرفه, ثم قال تعالي مقام إبراهيم) يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به علي رفع القواعد منه والجدران, حيث كان يقف عليه ويناوله ولده اسماعيل, وقد كان ملتصقا بجدار البيت حتي أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه, في إمارته إلي ناحية الشرق, بحيث يتمكن الطواف منه, ولا يشوشون علي المصلين عنده بعد الطواف.. وقال ابن عباس في قوله فيه آيات بينات مقام إبراهيم) أي فمنها مقام إبراهيم والمشاعر, وقال مجاهد: أثر قدميه في المقام آية بينة.., وقال ابن أبي حاتم عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالي: (مقام إبراهيم) قال: الحرم كله مقام إبراهيم, وقوله تعالي ومن دخله كان آمنا) يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء, وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية... وحتي إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره, وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها كما ثبتت الأحاديث والآثار في ذلك.... وذكر بقية المفسرين كلاما مشابها لتفسير ابن كثير رحمه ورحمهم الله, ولا أري حاجة إلي تكراره هنا.
من الدلالات العلمية للآية الكريمة في تفسير قوله( تعالي): إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدي للعالمين* فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا...*( آل عمران:97,96) ذكر ابن كثير( رحمه الله) أن المقصود بتعبير( مقام إبراهيم) هو تلك الصخرة التي استعان بها سيدنا إبراهيم( علي نبينا وعليه السلام) بالوقوف عليها وهو يرفع القواعد من البيت العتيق, وولده اسماعيل( علي نبينا وعليه السلام) يناوله الحجارة حتي تتم البناء.
وانطلاقا من ذلك قال مجاهد( يرحمه الله) إن الآيات البينات التي جاء ذكرها في هاتين الآيتين الكريمتين هي أثر قدمي سيدنا إبراهيم( عليه السلام) في تلك الصخرة المعروفة باسم( مقام ابراهيم). ولكن ابن عباس( رض الله عنهما) ذكر أن المقصود بقول الحق( تبارك وتعالي)( مقام ابراهيم) هو الحرم علي اتساعه, وأن الآيات البينات التي فيه منهن مقام ابراهيم والمشاعر, وأيد ذلك عطاء( رحمه الله) كما رواه ابن أبي حاتم فقال: الحرم كله مقام إبراهيم, ويؤيد ذلك قوله( تعالي): من دخله كان آمنا, أي من دخل إلي الحرم المكي.
وتقدر مساحة هذا الحرم الملكي بحوالي600 كيلو مترا مربعا علي هيئة سلسلة من الأودية والمنخفضات تمتد من مكة المكرمة غربا إلي ساحة عرفات شرقا, مرورا بكل من وادي مني ووادي المزدلفة. ولهذا الحرم حدود حددها ربنا( تبارك وتعالي) لأبينا آدم( عليه السلام), وحملها جبريل( عليه السلام) إلي أبي الأنبياء إبراهيم( علي نبينا وعليه من الله السلام) وقد نصبت علي هذه الحدود أعلام في جهات خمس تعتبر المداخل الرئيسية للحرم المكي, وهذه الأعلام علي هيئة أحجار مرتفعة قدر متر واحد, منصوبة علي جانبي كل طريق من الطرق المؤدية إلي منطقة الحرم المكي. وهنا يتبادر السؤال ماهي الآيات البينات التي أشارت إليها الآية الكريمة التي نحن بصددها في هذه المساحة الكبيرة التي تشكل الحرم المكي؟ وماهي دلالاتها علي شرف المكان وعظمته وبركاته؟وللاجابة علي ذلك نورد ما يلي:
الآيات البينات في الحرم المكي: أولا: توسط مكة المكرمة لليابسة: وقد قام بإثبات ذلك الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين( رحمه الله رحمة واسعة) وذلك في بحث قيم بهذا العنوان في أثناء تحديده لاتجاهات القبلة من المدن الرئيسية في العالم فلاحظ تمركز مكة المكرمة في قلب دائرة تمر بأطراف جميع القارات السبع التي تكون اليابسة. فإذا كانت الأرض هي مركز السماوات السبع بنص الآية الكريمة التي يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي) في سورة الرحمن: يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان*( الرحمن:33)
وذلك لأن قطر أي شكل هندسي هو الخط الواصل بين طرفيه مرورا بمركزه, وأقطار السماوات علي ضخامتها تنطبق علي أقطار الأرض علي ضآلتها النسبية بحسب نص الآية الكريمة, فلابد أن تكون الأرض في مركز الكون. ويدعم هذا الاستنتاج ورود الإشارة بذكر السماوات والأرض وما بينهما في عشرين آية قرآنية صريحة, ومقابلة السماوات بالأرض في عشرات الآيات القرآنية الأخري. ويدعم هذا الاستنتاج كذلك ما روي عن المصطفي( صلي الله عليه وسلم) من أقوال منها: ــ كانت الكعبة خشعة علي الماء فدحيت منها الأرض. ــ إن الحرم حرم مناء من السماوات السبع والأرضين السبع.
ــ البيت المعمور منا مكة ووصفه بقوله( صلي الله عليه وسلم) بأنه بيت في السماء السابعة علي حيال الكعبة تماما حتي لوخر لخر فوقها. كل هذه النصوص تؤكد مركزية مكة المكرمة لليابسة أي الأرض الأولي, ومركزية الأرض للسماوات السبع, فالحرم المكي مركز بين السماوات السبع والأرضين السبع كما وصفه المصطفي( صلي الله عليه وسلم).
ثانيا: انتفاء الانحراف المغناطيسي عند خط طول مكة المكرمة: كذلك ذكر الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين( رحمه الله رحمة واسعة) في بحثه القيم المعنون إسقاط الكرة الأرضية بالنسبة لمكة المكرمة والمنشور في العدد الثاني من المجلد الأول لمجلة البحوث الإسلامية الصادرة بالرياض سنة1396/1395 هـ( الموافق1976/1975 م) أن الأماكن التي تشترك مع مكة المكرمة في نفس خط الطول ينطبق فيها الشمال المغناطيسي الذي تحدده الابره الممغنطة في البوصلة مع الشمال الحقيقي الذي يحدده النجم القطبي, ومعني ذلك أنه لايوجد أي قدر من الانحراف المغناطيسي علي خط طول مكة المكرمة, بينما يوجد عند جميع خطوط الطول الأخري.
ثالثا: ضبط اتجاه أضلاع الكعبة المشرفة: الكعبة المشرفة مبنية بأضلاعها الأربعة في الاتجاهات الأربعة الأصلية تماما. فضلعها الذي به المزراب والمطل علي حجر اسماعيل والذي يضم الركنين العراقي والشامي يقام في اتجاه الشمال الحقيقي, ويقابله في اتجاه الجنوب الضلع الذي يضم ركن الحجر الاسعد والركن اليماني وضلعها الذي به الباب والملتزم والذي يضم كلا من ركن الحجر الاسعد والركن العراقي يواجه الشرق تماما ويقابله الضلع الغربي الذي يضم كلا من الركنين الشامي واليماني. وتحديد تلك الاتجاهات بهذه الدقة في زمن موغل في التاريخ كالذي بنيت فيه الكعبة المشرفة ينفي إمكانية كونه عملا بشريا.
رابعا: الحجر الأسعد من أحجار السماء: روي أبي بن كعب عن النبي( صلي الله عليه وسلم) أنه قال الحجر الأسود نزل به ملك من السماء. وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس( رضي الله عنهما) أن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) قال: نزل الحجر الأسود من الجنة, وهو أشد بياضا من اللبن, فسودته خطايا بني آدم. وروي عنه أيضا قوله( صلي الله عليه وسلم) لأم المؤمنين السيدة عائشة( رضي الله عنها) وهي تطوف معه بالكعبة المشرفة حين استلم الركن: لولا ما طبع علي هذا الحجر يا عائشة من أرجاس الجاهلية وأنجاسها إذن لا ستشفي به من كل عاهة, ولألفي اليوم كهيئته يوم أنزله الله( عز وجل), وليعيدنه إلي ما خلقه أول مرة, وإنه لياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة, ولكن الله( سبحانه وتعالي) غيره بمعصية العاصين, وستر زينته عن الظلمة والأثمة, لأنه لاينبغي لهم أن ينظروا إلي شئ كان بدؤه من الجنة رواه الأزرقي عن وهب بن منبه)
كذلك أخرج كل من الترمذي, وأحمد, والحاكم, وابن حبان قول رسول الله( صلي الله عليه وسلم): إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة. وجاء في رواية للبيهقي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم) أضاف: ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم لأضاءا ما بين المشرق والمغرب, وما مسهما من ذي عاهة ولا سقم إلا شفي.
وحينما قرأ المستشرقون هذه الأحاديث النبوية الشريفة ظنوا الحجر الأسعد قطعة من البازلت الذي جرفته السيول من الحرات المجاورة وألقت به إلي منخفض مكة المكرمة. ومن أجل إثبات ذلك استأجرت الجمعية الملكية الجغرافية البريطانية ضابطا بريطانيا باسم ريتشارد فرانسيس بيرتون(RichardFrancisBurton) جاء إلي الحجاز في هيئة حاج أفغاني وذلك في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي(1269 هـ/1853 م) بهدف سرقة جزء من الحجر الأسود والفرار به إلي بريطانيا, وبالفعل تم له ذلك, وبدراسة العينة المسروقة ثبت أنها من أحجار السماء, لأنها تشبه أحجار النيازك, وإن تميزت بتركيب كيميائي ومعدني خاص, وكان هذا الاكتشاف سببا في إسلامه, وقد سجل قصته في كتاب من جزءين بعنوان رحلة إلي مكة(AJourneyToMecca), وتوفي بيرتون في سنة1890 م/1308 هـ.
خامسا: مقام إبراهيم( عليه السلام) يحمل طبعة قدميه: أشرنا مسبقا بأن كلمة( المقام بفتح الميم الأولي وضمها تأتي بمعني الإقامة, من الفعل( أقام),( يقيم),( إقامة), و(مقاما), ومن هنا أخذ التعبير القرآني( مقام إبراهيم) علي أنه الحرم المكي بكامل حدوده, ولكن من مدلول الكلمة أيضا( موضع القيام) من الفعل( قام)( يقوم)( مقاما), ولذلك فهم تعبير( مقام إبراهيم) بالصخرة التي( قام) عليها وهو يرفع القواعد من البيت, وبهذا المفهوم فإن هذه الصخرة تحمل آية بينة وهي أنه علي الرغم من صلادتها( صلابتها) الشديدة فإنها تحمل طبعة غائرة لقدمي أبي الأنبياء إبراهيم( عليه السلام), ولين هذه الصخرة الصلدة الي الحد الذي يمكنها من حمل طبعة قدمي هذا النبي الكريم معجزة بكل المقاييس العلمية يقف العلم عاجزا أمام إمكانية تفسيرها, لأن المعجزات خوارق للسنن والقوانين, ولذلك لايمكن للعلم الكسبي أن يفسرها, وهي آية محسوسة لكل ذي بصيرة. وفي الأثر أن هذا المقام كان يرتفع بإبراهيم( عليه السلام) حتي يضع الحجر في مكانه المحدد من البناية, ثم يهبط به ليتناول حجرا آخر من ولده اسماعيل( عليه من الله السلام). وفيما يروي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قوله: الركن والمقام من الجنة, وقوله: الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة.
سادسا: بئر زمزم آية من آيات الحرم المكي: إن تدفق الماء من بئر زمزم علي مدي أكثر من ثلاثة آلاف سنة, من قلب صخور نارية ومتحولة شديدة التبلور هو أمر لافت للنظر.. علي الرغم من طمرها وحفرها لعدة مرات, ولم يعرف مصدر هذا الماء المتدفق إلي البئر إلا بعد حفر الأنفاق حول مكة المكرمة, حين أدرك العاملون في حفر تلك الأنفاق أن الماء يتدفق من تشققات شعرية دقيقة تمتد لمسافات بعيدة خارج حدود مكة المكرمة وفي جميع الاتجاهات من حولها, وهذه الملاحظة تؤكد وصف المصطفي( صلي الله عليه وسلم) لهذه البئر المباركة بأنها نتجت عن طرقة شديدة وصفها بقوله الشريف: هي هزمة جبريل وسقيا الله لاسماعيل لأن الهزمة في اللغة هي الطرقة الشديدة. وبئر زمزم هي إحدي الآيات المادية الملموسة الدالة علي كرامة المكان ويصف رسول الله( صلي الله عليه وسلم) ماءها بقوله: خير ماء علي وجه الأرض ماء زمزم, فيه طعام طعم وشفاء سقم وقوله: ماء زمزم لما شرب له.
سابعا: إن أعدادا كبيرة من الأنبياء والصالحين مدفونون في الحرم المكي وفي مسجد الخيف: فعلي سبيل المثال يذكر أن سيدنا اسماعيل( عليه السلام) وأمه السيدة هاجر( رضي الله عنها) مدفونان في حجر إسماعيل, ويروي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) أنه قال: في مسجد الخيف قبر سبعين نبيا. ويروي عن سعد بن أبي وقاص( رضي الله عنه) قوله لو كنت من أهل مكة ما أخطأتني جمعة لا أصلي فيه, ولو يعلم الناس مافيه لضربوا إليه أكباد الإبل..
وقال مجاهد: حج خمسة وسبعون نبيا كلهم قد طاف بهذا البيت وصلي في مسجد مني. وآثار هذه الأعداد الكبيرة من الأنبياء والصالحين لاتزال موجودة في هذه المنطقة المباركة من الأرض وهي من الآيات البينات التي جاءت الإشارة إليها في الآية التي نحن بصددها والتي يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي): فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا..*
وسوف أرجئ التعليق علي بقية الآية الي مقال آخر إن شاء الله, فالحمد لله علي نعمة الإسلام والحمد لله علي نعمة القرآن وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد. | |
|