كنت أسير ذات صباح في حي قديم وسط لندن, رأيت على باب عتيق جمعا من الزائرين مصطفين امام الباب وفوق رؤسهم يوجد لوحة كبيرة مكتوب عليها "مغارة لندن" .. ولجتُ الباب بعد ان ابتعت بثمن بخس تذكرة دخول .. اعتقدتها رحلة خيالية إلى إحدى المغارات التي تعشقها الأساطير الانجليزية ... فماذا وجدت



حضارة انجلترا تتحدث عن نفسها في رحلة عبر الحقيقة, رحلة تخبرك كيف كان هو الشعب الانجليزي بدائياً إلى عهد قريب يعاقب الأبرياء بالمياه المغلية, ويعالج المرضى النفسيين بتقطيع أوصالهم, رحلة تكشف بوضوح كيف كانت انجلترا التي حكمت العالم .. ضاربة في الهمجية, إنه اعتراف بالخطأ أمام كل البشر, وأمام الأجيال الجديدة والقديمة, كي لا تتكرر مأساة الماضي, أصبحت هذه المغارة مدرسة لمن سيأتي ... بل أصبحت مصدر فخر لا فضيحة يجب دفنها .. مدرسة علمت الانجليز ان الاعتراف بالخطأ هو الذي دفعهم لقيادة العالم



اما نحن فخلاف ذلك تماماً .. فنحن لم نصل بعد بل لم نجرؤ حتى على التفكير في بناء هكذا مغارات .. بل عندما يكتب أحدنا منتقدا ظاهرة سلبية في حكومته وسياساتها او مجتمعه فإنه إما يجد نفسه في غياهب السجون أو في أسوء الحالات فإنه يُتهم بالعمالة واللاوطنية وباللا انتماء وربما بالارهاب احيانا اخرى كما نرى رؤوسا تظهر فجأة من المجهول لتسال وتتسائل عن انتماء الكاتب وعن سبب كتابته لمقاله في هذا الوقت بالذات والواقع أنه حتى لو كتب مقالته هذه حتى لو بعد مائة سنه فإنهم سيظلون يسالون (لماذا الآن) ؟؟؟



ليست مهمة الكاتب ان يتحدث عن مزايا المجتمع, وليست مهمته أن يتحدث عن الاشياء الجميلة فقط .. وليست مهمته ان يتغزل بحكومة بلده وسياساتها من أجل فتات وبقايا كعكة يأمل يائسا الحصول عليها وليست مهمته أن يطبل ويصفق ويقول (برافو) وأحسنت ...



مهمة الكاتب الحقيقية أن يرسم صورة لمجتمع أفضل فيحدد الأخطاء اولاً .. يجردها من دثارها. ليس جلداً للذات أو تعرية للمجتمع أو لسياسة تلك الحكومة أو هاته, بل رغبة في الفضيلة وحبا في تحقيق العدالة والكرامة والحرية



ارقى المجتمعات واغناها مليئة بجاهلية من نوع ما .. ولن نكون استثناء عن تلك المجتمعات ... ولكن الحفاظ على الرقي والغنى والتقدم يتطلب دوما محاربة الأخطاء, واول علامات النصر معرفة الخصم جيدا وتقدير قوته



للندن مغارة واحدة تشجع حكومتها كل قاصد لزيارتها, وفي كل مكتب بريطاني حول العالم دليل عن هذه المغارة. ولدى كل سائق تاكسي معلومات عن تلك المغارة.. أما نحن فما نزال نفاخر بأننا أقل شعوب الأرض أخطاءً .. وبأن من يقول خلاف ذلك يجلد ذاته وذاتنا ويخرج عن القانون وعن عرف المجتمع ... فنحن لسنا كغيرنا أبدا