في كل مرة سنقرأ قصيدة، أو جزءاً من قصيدة، أو حتى بيتاً واحداً فقط لأحد الشعراء المعروفين أو غير المعروفين اسماً، وإن بقيت أشعارهم هذه أبداً.. نفعل ذلك بحثاً عن "شوية هوا" نتنفّسهم عبر كلمات معطّرة يبقى رحيقها طويلاً طويلاً.
لو تلفّظْتَ مرة بالبيت الشهير: "الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيّب الأعراق"، ثم توقّفْتَ لتسأل عن القائل.. ستجد الإجابة في أغلب الأحيان وبثقة عمياء: "أحمد شوقي"؛ سواء كان مَن أمامَك صاحب ثقافة راقية أو بسيطة.
نعم، وهم في الواقع معذورن كل العذر في ذلك؛ فيمكنك أن تفتح موقع البحث الشهير جوجل لتكتب في مربع البحث البيت؛ لتجد عشرات الصفحات التي تشير إلى أن أمير الشعراء هو قائل البيت، وقد نوّه لذلك ذات مرة الكاتب الكبير بلال فضل، في مقال له مؤخراً عن وقوعه في هذا الخطأ، والسبب هو الشبكة العنكبوتية.
في الواقع نحن نعاني أزمة المصادر الإلكترونية غير الموثوقة في العديد من الأمور، وليس في هذا البيت وحده؛ ولأننا في "شوية هوا" نهتمّ بكل ما هو شعري، ونبحث ونمحّص في بطون الشعر العربي الخالد؛ وجدتني أبحث في مكتبة أبي عن ديوان حافظ إبراهيم شاعر النيل، المولود في فبراير من عام 1872، والذي قال عنه شوقي عقب وفاته:
قَد كُنتُ أوثِـرُ أَن تَقـولَ رِثائـي **** يا مُنصِفَ المَوتى مِـنَ الأَحيـاءِ
لَكِن سَبَقْتَ وَكُـلُّ طـولِ سَلامَـةٍ **** قَـدَرٌ وَكُــلُّ مَنِـيَّـةٍ بِقَـضـاءِ
ووجدته وهو من النوع العتيق الذي يكسوه الغبار، وتصطبغ صفحاته باللون الأصفر القديم، ويتميز غلافه بأنه مهترئ وبشدة، وإن قلّبت صفحاته بعنف ستذهب أوراقه أدراج الرياح؛ لكن الحقيقة أن له رائحة ساحرة، تشعر وأنت تُزيح ورقة تلو الأخرى بـ"شوية هوا" حقيقيين تماماً تتنفسهم في متعة.
وتأكّدت من أن هذا البيت بالفعل لشاعر النيل، وهو جزء من قصيدة طويلة، تصل لـ46 بيتاً، وتحمل اسم "مدرسة البنات ببورسعيد".. وتندرج تحت باب الاجتماعيات، وقد أنشدها بنفسه في حفل أقيم في بورسعيد في 29 مايو سنة 1910 لإعانة تلك المدرسة.
وأنقل لكم هنا جزءاً من مطلع القصيدة غير المعروفة للكثيرين، وسأعرّج بعدها على الأبيات الأشهر
كم ذا يُكابد عاشق ويُلاقي .. في حب مصر كثيرة العشاق
إني لأحمل في هواكِ صبابةً .. يا مصر قد خرجت عن الأطواق
لَهَفي عليك متى أراك طليقةً .. يحمي كريم حماكِ شعب راقِ
كَلِف بمحمود الخِلال مُتيّم .. بالبذل بين يديك والإنفاق
إني لتطربني الخِلال كريمةً .. طرب الغريب بِأَوْبة وتلاقي
وتهزّني ذكرى المروءة والندى .. بين الشمائل هزّة المشتاق
ثم تمضي القصيدة الطويلة والشيّقة، لتجيء ثمانية أبيات، منها البيت المقصود:
من لي بتربية النساء فإنها .. في الشرق علة ذلك الإخفاق
الأم مدرسة إذا أعددتها .. أعددت شعباً طيّب الأعراق
الأم روض إن تعهّد بالحيا .. بالري أوْرَقَ أيّما إيراق
الأم أستاذ الأساتذة الأُلَى .. شغلت مآثرهم مدى الآفاق
أنا لا أقول دعوا النساء سوافراً .. بين الرجال يَجُلْن في الأسواق
يَدْرُجن حيث أردن لا من وازع .. يحذرن رِقْبته ولا من واق
يفعلن أفعال الرجال لواهياً .. عن واجبات نواعس الأحداق
في دُورِهن شئونهن كثيرة .. كشئون رب السيف والمزراق
ويأتي آخر بيتين في القصيدة ليشدو بعظَمَته المألوفة في الشعر ليقول:
ربّوا البنات على الفضيلة إنها .. في الموقفين لهن خير وِثاق
وعليكمُ أن تستبين بناتكم .. نور الهدى وعلى الحياء الباقي
رحم الله حافظ إبراهيم، شاعر النيل، وحفظ لمصر تاريخ هؤلاء العظماء من الضياع.