عادى جداً أن تدخل أحد المقاهى أو المطاعم الباريسية وتجد الجالس فى مواجهتك أو خلفك هو الرئيس ساركوزى، وقد تصادف معى أكثر من مرة فى الثمانينيات أثناء تناولنا العشاء بأحد المطاعم المجاورة للشانزليزيه، أن نرى الرئيس «ميتران» يدخل مع عشيقته، وكبير الجرسونات يقوده للجلوس على منضدة بأحد الأركان، شأنه شأن أى مواطن وسط الناس، وفى التسعينيات دخلت بصحبة صديقى الأستاذ عبدالوهاب مطاوع مطعماً باريسياً مشهورا بتقديم الكوارع، ودخل علينا الرئيس «شيراك» المعروف بعشقه للحم الرأس ليجلس خلفنا،
وفى أمريكا يصادفك الرئيس «كلينتون» أو «أوباما» وهو يقف فى الطابور ليحصل على ساندويتش هامبورجر، وفى هولندا يجوز أن تصطدم بـ«الملكة» وهى تركب الدراجة لتشترى بنفسها بوكيه ورد، أو كرنبة وشوية جزر لزوم الشوربة التى تصنعها بنفسها فى الويك إند، وهكذا بالدول المتحضرة لا توجد حواجز حديدية بين الحاكم والمحكوم.. فالرئيس هناك «موظف» لدى الشعب براتب شهرى من عرق الشعب!!
ولكن الجديد أننى فى الأسبوع الماضى كنت جالساً بمقهى ملحق بمطعم «مكسيم» الشهير بميدان الكونكورد بباريس، وهطلت أمطار غزيرة جعلت المشاة بالشارع يدخلون المقهى حتى ينتهى المطر، وفجأة وجدت أمامى السفير المصرى مع الرئيس مبارك ولا توجد منضدة خالية، فقمت على الفور لأترك لهما المكان.. وهنا دعانى الرئيس للجلوس معهما بعد أن طلبنا من الجرسون كرسيا ثالثا وقدمنى السفير للرئيس!!
وابتسم الرئيس وهو يسألنى عن أحوال المصريين فى الغربة.. قلت: يا ريس إحنا كويسين والحمد لله رغم الظروف الاقتصادية العالمية التى جعلت كثيرين من المهاجرين يفكرون جدياً فى العودة للاستثمار على أرض مصر، ولكنهم خائفون.. مرعوبون مما يسمعونه عن المشاكل، والروتين، والرشاوى، وغموض مستقبل الحكم فى مصر.. و.. قاطعنى الرئيس ولكن بابتسامة مشجعة للاستمرار فى الحديث، وعندما قال: وإيه بقى سبب الرعب ده؟؟ نظرت خلسة إلى السفير فضبطنى الرئيس، وبهزار قال: يا أخى نفسى واحد مصرى يكلمنى بصراحة ودوغرى من غير لف ودوران، قلت: يا ريس سيادتك عايزنى أتكلم معاك على طريقة الفرنسيين فى الجهر بالحقائق.. ولن تعتبرها وقاحة منى؟
قال: يا أخى دى فرصة أسمع فيها الحقيقة من واحد مصرى، ويا سيدى عليك الأمان!!
قلت: يا ريس تعالى نبدأ من البداية:
أولاً: سيادتك بعد أن توليت الحكم، أعلنت أنك لن تستمر لأكثر من دورتين ١٢ سنة، وفى النهاية جلست ٢٨ سنة، وربما تنوى الترشيح فى ٢٠١١، ومستمر حتى آخر نبض.. والأدهى هو موافقتك على دخول «جمال» فى العمل السياسى ليصبح رئيساً من بعدك، وهذا بكل المقاييس شكل من أشكال «التوريث»، لأن كل أجهزة ومؤسسات الدولة بكل إمكانياتها ستقف بجانبه ضد أى مرشح ينافسه على الكرسى الكبير، والدليل ما حدث مع «البرادعى»، وهذا يتنافى تماماً مع الديمقراطية، والتداول السلمى للسلطة، ويجهض فكرة «الإفراز الطبيعى» للمجتمع، ولا أحد يعرف ماذا سيحدث غداً.. فهل الرئيس هو المرشح، أم أن «جمال» هو القادم..
أم أنكم يمكن أن تغيروا الخطة وتدفعوا بشخصية أخرى من الحزب ربما تكون مكروهة، وأفكارها مجهولة؟! والحقيقة أن الناس تائهة.. وكثير من المستثمرين الأجانب خائفون ومترددون.. والكل يضرب أخماساً فى أسداس، مما يعطل مسيرة التنمية التى سبقتنا فيها بلدان لا تملك ١/١٠ من إمكانياتنا لنصبح فى ذيل قائمة المتخلفين!!
ثانياً: سيادتك فى خطاب تكليف الفريق «كمال حسن على» بتشكيل الوزارة فى ٨٤.. كان أول بنوده: «إعادة بناء الإنسان المصرى».. فماذا حدث بعد ١/٤ قرن؟
تحطمت إرادة الإنسان المصرى بعد أن فقد الثقة فى نفسه، والأمل فى نظام الحكم ووصل إلى اليأس، وهانت عليه نفسه، فتنازل عن كرامته يوماً بعد يوم حتى أصبح «ملطشة» لكل من لا يسوى!!
ثالثاً: فاكر سيادتك «برنامج الألف يوم» الذى وعدتنا فيه بأن «ثمار» الإصلاح الاقتصادى سوف يقطفها الشعب بعد ألف يوم من مواصلة شد الأحزمة على البطون، وبعد خمسة آلاف يوم وقع ٥٥٪ من المصريين تحت خط الفقر.. فمن الذى قطف «ثمار» الإصلاح؟
رابعاً: سيادتك تسلمت الحكم فى ٨١، ومصر لديها اتفاقية سلام، ولم تعد هناك حروب، وقناة السويس مفتوحة تدر عوائد، والمعونات الأمريكية مع المساعدات الأوروبية والمنح، حوالى ٤ مليارات دولار سنوياً، وصورة مصر الخارجية كانت فى أزهى عصورها مع الغرب.. ومنذ المؤتمر الاقتصادى الأول والمصريون تواقون ومنتظرون أى «مشروع» نهضوى، أو أى «مشروع قومى» يضع مصر فى المكان اللائق بتاريخها وإمكانياتها على الخريطة العالمية.. «وصبرنا، ومللنا، ويئسنا ونحن نرى الفرص» تضيع واحدة بعد أخرى، بحجة الاستقرار الذى تحول إلى جمود أدى إلى شلل كامل.
والناس تسأل: بعد ٥٧ سنة من يوليو ٥٢ ما المحصلة؟
والمحصلة أن مصر الآن أصبحت معرضة لمخاطر ما أنزل الله بها من سلطان:
١- انفجار سكانى لم يجرؤ أحد على مواجهته ولو بالتدريب والتأهيل.
٢- مياه النيل لن تصل أبعد من أسيوط فى ٢٠٣٠ بسبب شراء الصين واليابان وإسرائيل والسعودية وغيرها مساحة ٣٠ مليون فدان بدول المنبع للاستزراع.
٣- فتنة طائفية ترقد تحت الرماد يمكن أن تشتعل فى أى وقت لعدم مواجهتها بحلول عملية وعادلة.
٤- أزمة غذائية يُجمع كل المتخصصين على أنها قادمة لا محالة خلال العامين المقبلين، مما سيتسبب فى «ثورة جياع» لن يقدر عليها أحد.
وبمجرد أن نطقت بكلمة «ثورة جياع»، امتقع وجه السفير، وازداد اصفراراً وبدأ فى بلع ريقه، وهو يرمقنى بنظرة تقول:
كفاية.. الله يخرب بيتك هتودينى فى ٦٠ داهية!!
وعلى صوت المنبه الرنان، صحوت من النوم، ولم أجد أحداً بجوارى.. فحمدت الله على أننى كنت أحلم على سريرى فى باريس.. فهناك من حقك أن تحلم بأن تكون رئيساً للجمهورية، وليس بأن تجلس مع رئيس الجمهورية!!