تأتي قصص كثيرة من هذا النوع ، مثل ( سدد شاب ديون والده بمدخراته للزواج وبعد أيام رزقه الله أضعافها ) و ( فتاة عقت والدتها فابتليت فورا وندمت ) و حكايات كثيرة ملخصها أن من يفعل خيرا أو سوءا يلقي جزاؤه الفوري ، ما يحتاج التفكير هو فقط كلمة ( الفوري )
لاتجري أحداث الحياة هكذا ، وإلا لكانت سهلة هينة ، ولما اعتبرت اختبارا وامتحانا وتمحيصا ليميز الله المحسن والمسئ ، لوكانت الأمور بهذه البساطة والمباشرة والفورية لكانت أقرب لمن يذهب ليبتاع شيئا فيدفع ويأخذ في نفس اللحظة بلا معاناة ولا ألم ، بلا انتظار ولا ترقب ، فأنا أفعل الخير وأتلقي الجزاء الحسن أضعافا مضاعفة ، إذن ما المشكلة ؟ وما هي التضحية التي قدمتها ؟ وما هو الابتلاء في ذلك ؟
النية الطيبة هي الدافع لتدبيج تلك القصص والتي تصلح أن تكون أمثلة توضيحية للصغار ولكنها في الحقيقة ليست نابعة من أرض الواقع ، ربما تكون الأيام جعلتني مهمومة بالواقع وما يجري فيه ، ومحاولة فهم وتفسير وإيجاد حلول قابلة للتنفيذ لمشاكله التي تؤرق بني البشر أجمعين .
المشكلة الحقيقية تكون شديدة التعقيد متعددة الجوانب والأطراف ، تجذب المصلحة والرغبة في البقاء وحلم السعادة صاحبها من جهة ويجذبه ضميره وقيمه وخشيته من الله من جهة أخري ، ويظل هو مؤرقا ممزقا بين الجانبين ، هذه المعاناة إذا انحاز أطرافها كل لمصلحته فإنها تترجم لمشاكل اجتماعية قد تصل لساحات المحاكم وقد تمزق أرحاما وتهتك أستارا وتشتت أسرا ، أما إذا انتصر المرء في معركته الخفية هذه علي نفسه وانحاز لضميره وأرضي ربه فإن نتائج المعركة ترسم خطوطها علي وجهه وتسحب رصيدا من صحته وأعصابه ولذلك يسمونها محنة .
يأتي الجزاء الطيب من الله سبحانه وتعالي في الدنيا والآخرة ولكن ليس بالضرورة بشكل فوري فنحن الذين نخضع للمشيئة الإلهية ولا نعرف ما الذي يدخره الله لنا وفي أي وقت أو ساعة يأتي الفرج ، وليس بالضرورة أيضا أن يكون الجزاء مباشرا فمن ساعد محتاجا بماله قد لا يأتيه مال و تكون مكافأته توفيقا لنفسه وأولاده وبركة في حياته ورضا يسكن نفسه وهكذا .
عندما يعرض مبلغا لابأس به علي موظف صغير طحنه الفقر وأذلته الحاجة مقابل الحصول علي ملف أو تغيير بعض البيانات أو أشياء من تلك التي تحدث كل يوم فإن قراره لن يكون سهلا ، سيقول دافع الخير راعي ضميرك وما في حوزتك يعد أمانة واتق الله ،وسيقول محامي الشيطان لا تكن مغفلا ، الكل يفعل ذلك ، إنها مجرد نقطة في بحر الفساد ، فتح عينيك واحصل علي ما تستطيع من مغانم لصالح أسرتك المساكين قبل فوات الأوان .
وعندما تأتي السكرتيرة المفصولة شاحبة مرتعشة لزوجة البك تقول لها إنها حامل من زواجهما العرفي وأن الباشا تنكر لها و أعطاها قرشين وطردها وتناشدها أن تستر عليها ، فإن الابتلاء يكون شديدا ، لأن مصلحة وسعادة واستقرار الزوجة ضدها وبإمكانها أن تطردها شر طردة فهي (ضرتها ) التي سرقت زوجها وأرقتها ليالي وهاهي تأتي إليها بقدميها ، ولكن من حكمت ضميرها واستعلت علي جرحها الأنثوي وسترت فتاة مسكينة حتي ولو كانت خاطئة ولم تتذكر سوي شيئا واحدا هو خشيتها لله ، فإن اختيارها سيكون صعبا.
هكذا تأتي المحن والابتلاءات ، لا تأتي سافرة ، بل متنكرة متسللة تراوغ الضمير وتتلمس الأعذار ، وتكون مأزقا كاشفا بالفعل لمدي استقرار اليقين بداخلك ، أما الجزاء فلا يعلم أحد إلا اله متي وكيف يأتي ؟ وفي الدنيا أم يؤجل للآخرة ؟ .
كل المنازعات والخصومات التي نشهدها هي من قبيل تعارض المصالح والرغبات ونستمع لطرفي النزاع فنجد لدي كليهما ما يقوله وينمقه ويبدو أن الحق معه ، القصة المؤثرة التي أرجو ألا تفوتكم وأن نتأملها سويا طويلا وكثيرا هي قصة الإنسان عندما تلتف حوله الظروف والأقدار ويكون بين خيارات أحلاها مر ولكنه يتمكن سريعا من نفض الوساوس ويري الحق أبلجا واضحا كفلق الصبح فيذعن لله وحده ويسلم بمشيئته مثلما فعل سيدنا إسماعيل عليه السلام حين وضع عنقه تحت حد السكين وقال لأبيه إبراهيم عليه السلام ( ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين* إن هذا لهو البلاء المبين )
صدق الله العظيم