"الغيرة".. تعدّدت مفرداتها وآثارها عند الأزواج.. ففي حين يعتبرها البعض علامة حب واهتمام وأنها ضرورية في الحياة الزوجية.. فإن البعض الآخر يعتبرها سوطاً يجلد ويشد الخناق على الحرية والانطلاق في الحياة.. ما يزيد من الهوّة بين الأزواج..
وفي حقيقة الأمر.. فإن الغيرة فطرة طبيعية في البشر إن كانت ضمن حدود معيّنة فإن تعدّتها تصبح مَرَضيّة وبحاجة لعلاج.. أما إن استفحلت وَجَبت حينها رؤيةُ طبيب حتى لا يصل الزواج إلى دركٍ أسفل من التخبط والشقاق..
وقد غارت أمُّنا عائشة رضي الله تعالى عنها على حُبِّ قلبِها رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم.. وفي السيرة العديد من الحوادث التي تُظهِر هذه الغيرة جليّة.. وأذكر منها حين استأذنت هالة بنت خويلد - أختُ خديجة - على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذانَ خديجة فارتاع لذلك فقال: (اللهم هالة). قالت أمُّنا عائشة وهي تروي الحديث: فَغُرْت وقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراءُ الشَّدْقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيرا منها؟!
فكيف قابل الحبيبُ عليه الصلاة والسلام هذه الغيرة؟ قابلها بالأناة واللين وبالحزم في آن واحد بقوله: ما أبدلني الله خيراً منها.. قد آمنت بي إذ كفر بي الناس.. وصدقتني إذ كذّبني الناس.. وواستني بمالها إذ حرمني الناس ورزقني الله أولادَها إذ حرمني أولادَ النساء..
وقد أُجرِيَت قراءة عن معاناة الأزواج والزوجات مع "الغيرة" فكانت النتيجة أن الزوجات يشكين من هذه الغيرة أكثر من الرجال.. ونسبةُ السيدات اللواتي يُعانين غيرةَ أزواجِهِنّ الزائدةِ عليهن هي أقل من نسبة الزوجات اللواتي يعانين من غيرتهن الزائدة على أزواجهن! وهناك من النساء من يتمنّين أن يغارَ عليهنّ أزواجُهُنّ ويتحرّقن لسماع كلمة: لا تقومي بهذا الفِعل أو لا تذهبي إلى ذلك المكان لأني أغار!
إذاً الغيرةَ هي شعورٌ داخليٌ طبيعي ولكن حين تتجاوز حدودَها الطبيعية تتحوّلُ إلى شك.. الذي هو من أخطر الأسباب التي تنبؤ بانهيار الحياة الزوجية.. يقول الحبيب عليه الصلاة والسلام: " إن من الغيرةِ ما يحبُها الله ومنها ما يبغضُه الله.. فالتي يبغضُها اللهُ الغيرة في غير ريبة"..
والغالب أن الغيرةَ تنمّ عن حب كبير أو خوف أو أنانية.. أو عن شعور داخلي بالنقص عند من يغار.. وتصوُّرٍ أن من يشاركه الحياة الزوجية قد يلتفت إلى من يراه أكثر تميّزاً منه.. وقد تتوّلد من ضعف الثقة بالنفس وبالطرف الآخر.. كما أنها قد تَنتج من تصرفات الحبيب نفسِه إن حاول إشعالَ الغيرةِ بقصد أو من دون قصد..
وقد قيل: ما أكبرْ الفرق بين الحب والغيرة.. فالحب الكبير يوَلِّد الغيرة.. والغيرة الشديدة تقتل الحب!
ولمن تشكو أو يشكو من عدم غيرة الطرف الآخر عليه.. فليحمدِ اللهَ تعالى .. فغيره يعاني أشد المعاناة من أمر الغيرة.. ونصيحةٌ أوجّهها إليه: إياك ثم إيّاك أن تحاول إثارةَ غيرةِ الطرفِ الآخر.. أو تغامر في ذلك لأنه قد يشك فيك وحينها تكون قد فتحت عليك باباً يصعب إغلاقه!
يشكو الزوج: زوجتي شديدةُ الغيرة حتى الجنون.. دائمةُ الشك بي.. وعندما أخرج معها تتهمني بالنظر إلى نساء أُخريات.. وعندما أريد زيارة أصحابي تفتعل المشاكل حتى لا أذهب ودائماً ما تتهمني بعدم حبي لها.. قد مللت منها!
وتشكو الزوجة: زوجي يشدّ عليّ بغيرتِه.. ممنوعٌ أن أذهبَ إلى السوق.. وإن نظر إليّ أحدُهم ولو بشكل عابر يتّهمني اتهامات لا أرضاها.. إنه يسيء الظنَ بي وهو دائم الشك.. حتى أنه يمنعني من الذهاب إلى بيوت أخواتي حتى لا أرى أزواجَهنّ.. كدتُ أختنق!
وأسرد هنا بعضَ النصائحِ لمن يعاني من الغيرة في حياته الزوجية.. وسأوجّه الخطاب إلى كلا الجنسين بصيغة المذكر.. وأبدأ بالطرف الذي يعاني من غيرة الطرف الآخر عليه..
بادئ ذي بدء حاول التحكّم بأعصابِك والتحلّي بالحكمة.. ولا تواجه وتتصادم بل اهدأ وتصرّف باتّزان
ونصيحةٌ أُخرى.. تحدّث مع الطرف الآخر في وقت مناسب وحاوره بلين أن هذه الغيرة تضايقك واتفقا معاً على آلية للتخفيف من حدّتها بعد تبيان أثرها السلبي إن تعدّت الحدود.
وكذلك حاول أن تكون مصدرَ سعادةٍ وراحةٍ للطرف الآخر وأخبره كم تحبه بشكل دائم.. وأنه محورُ حياتِك وأجملُ ما فيها.. وأكثِر من الغزل والعبارات الإيجابية بينكما..
وأيضاً.. اعرف كلَ ما يُثير غيرةَ الطرفِ الآخر وتجنَبْهُ قدْرَ الاستطاعة.. خاصة في الحديث عن الزملاء في العمل مثلاً أو عن الأشخاص الذين سبقوا وتقدموا للزواج.. أو المعجبين وعن غيرِها من الأمور التي تُشعل نار الغيرة في الشريك..
وأنصحك بأن تحاول استكشاف دوافِعِه للغيرة.. لتتمكّن من معالجة الأمر..
أما إن شعر طرفٌ أن غيرةَ الطرف الآخر قاتلة.. وستؤدّي الى انهيار البيت.. فعليه أن يُقنعه أو يرى الطريقةَ المناسبة لعرضِه على طبيبٍ نفسي.. لأنه قد يكون مصاباً بالشك المَرَضي وهو ما يسمّيه علم النفس بالاضطراب الضلالي من نوع الغيرة..
أما الزوج (أو الزوجة) الذي يعاني من غيرته على الشريك فعليه أن يحاول التغيير حتى لا ينفذْ صبر الطرفِ الآخر فينهارْ الزواج.. وليحاول قدر الإمكان:
أن لا يراقب تحرّكات الطرفِ الآخر.. أو أن يضعَهُ تحت المجهر.. فيعبث بجوالِه وأوراقِه ويتجسس عليه.. اللهم إلا إن شعر أن هناك فعلاً ما يريب..
وكذلك عليه أن يحاول جعلَ البيتِ مكاناً للراحة والسكن لا للصدام والغليان.. وذلك بالعمل على وأد الشك والمشاعر السلبية في النفس.. وعدم افتعال المشاكل لأسباب واهية كتعبير عمّا يعتلج صدره من غيرة لا يصرِّح بها!
ولعل تزكية القلب وتقوية الإيمان وتهذيب الأخلاق والتوعية الدينيّة عوامل مهمّة جداً لدرء مفاسد الغيرة وتقليص ضررها..
من حق الزوج كما الزوجة أن يعيشا حياة طبيعية من خروج وعمل وزيارات ضمن الحدود الشرعية لذلك.. ولا يجب أن يعمل مبضع الغيرة في القلوب فيعميها ليبدأ الشك والأنانية بالتحكم وإلغاء الطرف الآخر!
وأُنهي بكلام الدكتور جاسم بن مهلهل الياسين حيث قال: "إن نيران الغيرة تلتهب بوقود خاص.. هذا الوقود يكون نظيفاً فتعطينا نيرانه النور والدفء والأمل.. وقد يكون وقوداً قذراً لا ينبعث من نيرانه غير دخان يزكم الأنوف ويعمي الأبصار"..